لا أدري لماذا يتردد في ذهني الآن تلك الموسيقى التصويرية لبرنامج الكاميرا الخفية للمذيع إبراهيم نصر ، هل تتذكره !؟
نعم هو بعينه ذلك البرنامج الذي كان يقوم به المذيع بمقالب مضحكة ثم يسأل الشخص في نهاية الحلقة " لو تحب نذيع قول ذيع .. نذيع !؟ " ، فتأتي الإجابات "ذيع .. ذيع " والابتسامات تعلوا الوجوه .. وطبعاً لم تصلنا الحلقات التي رفض أصحابها إذاعتها ولكن يمكننا أن نتخيلهم يقولون " لاء متذيعش " !
هذا هو الحال الآن ، أنا انتظر المذيع ، أو أياً كان أن يفاجئني ويخبرني أن هذا ما هو إلا مزحة كبيرة " تحبي نذيع " !
نعم أنا حقاً أتمنى في هذه اللحظة أن يكون كل هذا مزحة سمجة يمارسها أحدهم ، أتمني أن أشعر في هذه اللحظة أن تلك الدماء لم تذهب سدى ، أتمنى ألا أشعر بأن حفنة سفاحين انتصروا وأتخيلهم يخرجون لنا ألسنتهم لإغاظتنا وإثارة حفيظتنا !
" تحبي نذيع " !
لقد كنت حقاً حالمة ساذجة طامعة - ككثيرين غيري - بأن أرى هؤلاء ينالون عقاباً لما فعلوه على مدار ثلاثين عام ؛ وما فعلوه خاصة أيام تلك التي لا يمكنني حتى ذكر اسمها ، إذ ينتابني الشعور بأنني أخدع نفسي بتسميتها " ثورة " ، كنت على أمل بعد كل ما عايشناه من أحداث بأن الحق سينتصر في النهاية والقمع والظلم سيأخذ منحى ولا يعود أبداً ، وأن العدالة والديموقراطية سيسودان ربوع الوطن الحبيب وسننهض ونترك دول العالم الثالث - كما في تلك الأفلام الساذجة التي ينتصر الخير فيها في النهاية - ، كنت آمل بعد كل الانتهاكات والألم والدم وكل ما عاصرناه أن ينتهي هذا الكابوس !
ولكن آااااه ، لم يحدث هذا .. وأعتقد أنه لن يحدث !
لقد كان الهدف من المرحومة هو إزالة نظام وبناء واحداً جديداً يمثل فئات الشعب جميعاً ، ولكن ما لم ندركه إلا متأخراً ؛ ومتأخراً جداً بأننا خلخلنا نظاماً لبعض الوقت لنعيد بناؤه أكثر قوة واستفحالاً وقمعاً من ذي قبل !
أنا لا أكتب هذا الكلام لكي أثير أي مشاعر بداخلك ، لا حماس ؛ لا ثورة في داخلك من جديد ؛ ولا حتى خيبة أمل . ربما أنا أكتب لأني أتسائل كما يتسائل كثيرون أمثالي ، هل كنا على صواب وهم على خطأ !؟
نعم ، نحن لم ندرك سوى متأخراً أننا أضعنا ثورتنا ، ولكن كنا على صواب وكانوا على خطأ !
نعم ، نحن تركناهم يسخرون منا علانية ، ولكن كنا على صواب وكانوا على خطأ !
نعم ، تخاذل البعض منا وتبعوا وعوداً هاوية ، ولكن كنا على صواب وكانوا على خطأ !
نعم ، نحن انقسمنا منذ فترة هذا حزب كذا وهذا حزب كذا هذا إخوان وهذا عسكر ، ولكن كنا على صواب وكانواعلى خطأ !
نعم ، انقسمنا لدرجة أننا استبحنا دماء المعارضين لنا في وجهات النظر ، ولكن كنا على صواب وكانوا على خطأ !
نعم ، انقاسماتنا كانت سبباً رئيسياً في وصولنا لهذه النقطة ورجوعنا للهوة من جديد بل أسوأ ، ولكن كنا على صواب وكانوا على خطأ !
- لابد وأنك قد قرأت كلماتي السابقة وشعرت بأنني أحاول أن أخدع نفسي وأخدعك بتلك الكلمات ، وإن لم تفعل فأنا حقاً أحاول التحايل على نفسي أولاً ثم عليك بالكلمات - لكن فلنعتبر أننا كنا على صواب وهم على خطأ .
هل كنا فعلاً على صواب ، حقا لا أعلم .. كل ما أعلمه الآن إن كان ما قد سبق سئ فما سيأتي أسوأ - وأتمنى أن أكون مخطئة - ، كل ما أعلمه الآن بأنه لا يوجد شئ اسمه ثورة فتلك لم تكن سوى خدعة كبيرة لحالمين كثيرين أنا أولهم ، كل ما أعلمه الآن بأن على المتضرر اللجوء لعدالة السماء فوحدها من يمكنها أن تنقذنا الأن !
"تحب نذيع " !؟
أنا أكتب هذا الكلام ليس من قِبَل التماشي مع موجة الغضب ، ولكن لأني حقاً حتى تلك اللحظة التي سمعت بها كلمة " براءة " ورأيت الوجوة تتهلل فرحاً ، وبالرغم من كل ما كان وما مررنا به ، كان بداخلى نفحة أمل صغيرة كاذبة تتضاءل مع الوقت ؛ بأن المحاكمة ستكون ذلك الدواء الذي سيشفي صدورنا ويعيد الأمل للقلوب مرة أخري ويعيد إحياء ما كنا ندافع عنه منذ سنين ليست ببعيدة ، أو لعلني كنت أخدع نفسي بذلك !
" تحب نذيع " !؟
هل تعلم أني الآن أشعر بل أكاد أجزم بأن كل ما حدث ما هو إلا صورة صغيرة من مخطط كبير آماله كاذبة بحرية وعدالة واستقرار وكرامة وأشياء كثيرة فقدت قيمتها المعنوية واللغوية ، وأن تلك المزعومة لم تخدم من البداية سوى فئة واحدة .. واحدة فقط ، في غنى طبعا عن أن أذكرها !
" تحب نذيع " !؟
حكمت المحكمة على كل حالم ثورجي طامع في تغيير هذا الوطن بالإعدام شنقاً بالواقع ، وإحالة أوراق قضيته نهائياً إلى سفح اليأس ، وغرامة طموح زائد لكلٍ منهم ، والاكتفاء بلفت نظرهم بأن الحلم ممنوع .. وإلا فليتحملوا عواقب سذاجتهم وآمالهم الزائدة .
" تحب نذيع .. قول ذيع " فلم يشهد التاريخ قبلاً هزلاً كهذا ، وهذه المسرحية فريدة من نوعها وستكون سبباً في إضحاك الملايين " تحب نذيع " !؟
ذيع !!!